المسعودي عالم موسوعي في التاريخ والجغرافيا والفلك وأدب الرحلة، وهو علي بن الحسين بن علي أبو الحسن المسعودي من ذرية عبد الله بن مسعود المؤرخ الرَّحّالة من أهل بغداد نشأ بها وأقام في مصر وتوفي فيها عام 346هـ/ 957م، طاف العديد من البلاد وصنفَ الكثير من الكتب القيمة الزاخرة بالمعلومات التي حيرت المؤرخين والعلماء والمستشرقين والمستعربين، فاحتاروا في تصنيفه، هل يصنفونه مؤرخًا أم جغرافيًّا أم فلكيًّا أم رحالة؟
قيل عنه: إنه كان إخباريًا وصاحب مُلَحٍ وغرائب وعجائب وفنون وكان معتزليًّا، أخذ العلم والمعرفة عن “أبي خليفة الجُمَحي” و”نِفْطَويه” وغيرهم، نشأ في بغداد واستقر بعد ترحاله وتنقله بين العديد من البلدان في فسطاط مصر وتوفي بها، رحل في طلب العلم إلى أقصى البلاد طاف فارس وكرمان سنة 309هـ/ 922م حتى استقر في “إِصْطَخْر” – مدينة قديمة في جنوب إيران – وفي السنة التالية انتقل إلى الهند، ومنها إلى “ملتان” حتى وصل إلى بلاد الصين، وطاف البحر الهندي إلى “مداغسكر” (مدغشقر الآن) ثم عادَ إلى عمان، وانتقل في رحلة أخرى سنة 314هـ/ 927م إلى ما وراء أذربيجان وجُرْجَان ثم إلى الشام وفِلسطين، وفي سنة 332هـ/ 945م وصل أنطاكية والثغور الشامية وصولاً إلى دمشق حتى استقر أخيرًا بمصر وتوفي فيها بعد سنة من وصوله لها، ولمْ يَفْتُرْ في أثناء أسفاره عن شغفه وحب الاستقصاء والبحث واكتساب العلوم المختلفة، فقد جمع من الحقائق والأخبار التاريخية والجغرافية ما لم يسبقه إليه أحد، وأَلَّفَ العديد من الكتب المفيدة والزاخرة بالعلوم ومن أهمها التاريخ.
من مصنفاته في التاريخ وأشهرها كتاب “مروج الذهب ومعادن الجوهر” فهو من أكثر كتبه شيوعًا وطُبِعَ عدة مرات، تناولَ فيه وصف الخليقة وقصص الأنبياء باختصارٍ، ووصف البحار وهيئة الأرض ومُدنها وعجائبها وبحارها وأغوارها وجبالها وأنهارها والنفيس من معادنها، وأخبار غياضها وجزائر البحار وأصل النسل وتباين الأوطان، وتواريخ الأمم القديمة من الفرس والسريان واليونان والرومان والفرنج والعرب القدماء وأديانهم وعاداتهم ومذاهبهم، وكذلك كتبَ عن التقويم والشهور والبيوت المعظمة وغيرها، ويوضح في بداية مقدمته أنه نقل وجمعَ كتابه من عشرات الكتب التاريخية التي كانت موجودة في أيامه، والتي لم يصلنا منها إلا عدد قليل مثل كتاب الطبري وفتوح البلدان للبلاذُري، ويقول: إن ما دعاه لكتابة هذا الكتاب مَحَبَّة احتذاء الشاكلة التي قصدها العلماء، وقَفَاها الحكماء، وأنه يريد أن يبقيَ للعَالَم ذكرًا محمودًا وعلمًا منظومًا عتيدًا. ونظرًا للمعلومات القيمة والفوائد الكثيرة الموجودة في ذلك الكتاب عُنِيَ به المستشرق “باربيه ذي مينار” ونقله وترجمه إلى الفرنسية وتمت طباعته في باريس سنة 1872م في تسع مجلداتٍ، وقد نقد “عبد الله المراكشي” هذه الترجمة في مجلة الضياء. وكذلك نقله وترجمه إلى اللغة الإنجليزية الأستاذ “سيرنجر” وطُبِعَ الجزء الأول منه في لندن سنة 1841م.
أما عن المصنفات الأخرى للمسعودي، فمنها على سبيل المثال وليس الحصر كتاب “أخبار الزمان ومن أباده الحدثان وعجائب البلدان والغامر بالماء والعمران” وهذا الكتاب كبير مثل اسمه فهو حوالي 30 مجلدًا ولكنه ضاع وفُقِدَ ولم يبقَ منه إلا الجزء الأول في مكتبة فينا، وكتاب “التنبيه والإشراف” وهذا الكتاب تفرد فيه بذكر الأفلاك والنجوم وتأثيرها والعناصر وتراكيبها وأقسام الأزمنة وفصول السَّنَة ومنازلها والرياح ومهابها والأرض وشكلها ومساحتها والنواحي والآفاق وتأثيرها على السكان وحدود الأقاليم السبعة والعروض والأطوال ومصابّ الأنهار، وذكر الأمم السبع القديمة ولغاتها ومساكنها ثم ملوك الفرس وطبقاتهم والروم وأخبارهم وجوامع تواريخ العالم والأنبياء وظهور الإسلام وسير الخلفاء وأعمالهم ومناقبهم حتى سنة 345هـ/ 956م، وهذا الكتاب يتفرد بوجود أشياء كثيرة لا توجد في غيره من كتب التاريخ وتمت طباعته في ليدن سنة 1894م بالمكتبة الجغرافية في حوالي 500 صفحة.
تفرد المسعودي بذكر بعض أجناس الأقوام مثل الروس حيث قسم المؤرخون العربُ الروسَ إلى ثلاثة أجناس، بينما ذكر لهم المسعودي جنسا رابعا يدعى “اللوذعانة” أو “الكودكانة” وهذا الجنس يشير إلى إحدى القبائل السلافية، حيث اتفق المؤرخون العرب أن أجناس الروس هم: كويابة والصلاوة والأرثانية. وكذلك أوضح الطرق التي سلكها الروس وأنهم قدموا من خليج يعترض من بحر أوقيانوس وأن هذا الخليج متصل ببحر مانطس أو نيطس (البحر الأسود) ومن ضمن أسماء بحر أوقيانوس (البحر المغربي) وأن هؤلاء القوم هم الروس؛ لأنه لا يقطع هذه البحار المتصلة ببحر أوقيانوس غيرهم، وانفرد أيضًا في ذكر الصقالبة وأنهم أمم كثيرة وأنواع شتى، وأن لهم ملك يدعى “الدير” يقصده التُّجار المسلمون بمختلف أنواع التجارات.
ومن ضمن مصنفاته الأخرى كتاب أخبار الخوارج، وذخائر العلوم وما كان في سالف الدهور، والرسائل، والاستذكار بما مَرَّ في سالف الأعصار، وأخبار الأمم من العرب والعجم، وخزائن الملوك وسرّ العالمين، والمقالات في أصول الديانات والبيان: في أسماء الأئمة، والمسائل والعلل في المذاهب والملل، والإبانة عن أصول الديانة وسرّ الحياة، والاستبصار: في الإمامة، والسياحة المدنية: في السياسة والاجتماع، وللعلم هو غير المسعودي الفقيه الشافعي وغير شارح المقامات الحريرية.
نظرا لكثرة المعلومات والعلوم التاريخية المختلفة التي صنفها لنا المسعودي والتي كان عالمًا بها أطلق المستشرقون عليه “هيرودوت العرب”. وقد ساعده في ذلك معرفته بالعديد من اللغات، منها: الروسية ولغات أخرى ساهمت في تكوينه العلمي كالهندية والفارسية واليونانية والسريانية وهذا بالطبع انعكس على آرائه وكتاباته وعِلمه، وكذلك في رحلاته العلمية المختارة بعناية التي كانت في أوائل القرن الرابع الهجري.
وكما سبق فقد كتبَ المسعودي عن الأفلاك وقياس الأرض وعن خطوط الطول والعرض ومواقع البلدان بكل دقةٍ وتمحيص، وتكلم عن تاريخ الخليقة منتقلاً إلى الشعوب التي زارها ومرَّ بها مثل الفرس والهند والقبط والروس والروم. كما كتب في الجغرافيا والتاريخ والأديان والملل والنحل وفي التفسير وعلوم السُّنة، ويعدُّ من أوائل من كتبوا في الجغرافيا الإقليمية ولكنه لم يُسمها باسمها هذا، وكان عالمًا في جغرافيا المناخ؛ لأنه درس غلاف الهواء، وليس ذلك فحسب بل يعتبر من أوائل علماء البيئة (الإيكولوجي الآن) ويقصد بالبيئة هنا كل ما يحيط بالإنسان؛ وذلك لأنه قام بربط أخلاق وعادات الخَلق (الناس) بالبيئة، إذ ربط البيئة بالنظم الاجتماعية أي جمعَ بين التاريخ والجغرافيا والفلك.
يُعدُّ المسعودي إمامَ المؤرخين فعلاً فقد تجول حوالي 25 سنة وتنقل ما بين فارس والهند والشام ومصر والأصقاع، مدوّنا مشاهداته ومعارفه في موسوعات تاريخية ضخمة تجمع بين المنقول والمشاهد. ويُقال إنه أول مَن أشار أو ذكر حكايات ألف ليلة وليلة وأنه لم يرد ذكرها قبله، والتي ذُكِرَت تحت مسمى “هزار أفسانه” وترجمتها بالفارسية (ألف خرافة)، مما يدلّ على أنه كان ملمًا بالأدب أيضًا.
كان المسعودي عالمًا جليلاً، فلكيًّا، حاسبًا، مُنجمًا، جغرافيًا، أخباريًا، فقيهًا، محدثًا، جدليًا، نظارًا، مؤرخًا، نسابةً، فيلسوفًا، أديبًا وراويةً.