في غمرة الفرح بدحر الطاغية المجرم، وتحرر سوريا بعد سنوات من الظلم والقهر والجور، أحب العودة إلى واحدٍ من مؤرخي المستقبل، لأرى كيف سجل التاريخ هذه الأحداث، وكيف تعاملت معها الكتب القادمة، وخير ما يُمكن للمرء أن يستند إليه ما كتبه المؤرخ الكبير أبو الفضل بن النهروان، ففي نصوصه القادمة من المستقبل نُعاين كيف عالج مؤرخٌ قادم، هذا الانتصار المهيب وكيف سجّل معها انطباعاته ومشاعره، في زمنٍ عادت الكتابة التاريخية فيه إلى نسق المؤرخين الأوائل، وننقل بعض ما نقله ابن النهروان في كتابه الحافل “الضوء اللامع في التاريخ الجامع”، وهو سجلّ عظيم حافل بأحداث بلاد العرب وتطورات الأمور وأخبار الدول وتقلّبات الأحوال. فقد كان مما كتبه عن أحداث الفتح المبين والتحرير المبارك الذي توج بالدخول إلى دمشق في الثامن من شهر كانون الأول/ديسمبر 2024، الموافق 7 جمادى الآخرة 1446 ه:
“وفي عام 1446 من الهجرة دخلتُ دمشق في التاسع من جمادى الآخرة (13-12-2024)، في الجمعة الأولى بعد التحرير، وما في الخلق إلا ضاحكٌ منفرج الأسارير، والناس في دمشق أفواج يعلوهم التكبير، وقد ازدانت الأزقة بأعلام الدولة والثوار، وامتلأت شوارعها بأهازيج الأحرار، وفي كل ركنٍ فيها ألقٌ وافتخار، وفي كل حيّ تضج الأفراح والأنوار، فكان يومًا من أيام الله الأجلّ، أشعر الناس بفتح دمشق الأوّل، فكدت أخال أرى خالد بن الوليد، ومعه حشود المؤمنين عن “باب شرقي” غير بعيد..
وقد سلكتُ في هذه الأزقة مع السائرين، وتضلعت من نسماتها حتى اليقين، فما وجدت نفسي إلا أمام المسجد الأمويّ موئل العلماء الربانيين، وعرين علوم السنة والمحدثين، وقد كانت أفراح الانتصار معلنة، وسب الطاغية علانية، وقد سيئت وجوه أعوانه والزبانية. وبعد أداء صلاة الجمعة في مسجد بني أمية الكبير، وكان خطيبنا رئيس الوزراء محمد البشير، هتفتُ مع الحشود المؤمنة، فكانت سويعات اختصرت سنوات بل أزمنة، وشاهدت ما بقي من تركة الهالك فكانت مزابل ودمنة، وفرحت معهم في ساحات الخلفاء الأوائل، الأمويين والعباسيين ذوي الشمائل، ومن ثمّ شمرت ساعد الجدّ والنفير، وغذيت مع الأحبة المسير، لأصعد قاسيون، فقد حرم الساقط الأشر الناس من صعوده وحاسبهم على الظنون، فأشرف منه على المدينة من مرتفع، فرأيت المآذن شامخاتٍ من غير هلع، والناس سعيدة بالأمن وقد طار الجزع، فشربت من أحد الباعة كأسًا من الشاي، ورفعت إلى الرب يداي، داعيًا بالخير لهذه البلاد، راجيًا التوفيق للعباد، سائلًا لهم أن يعصمهم من العواصف الشداد، وقد قدمت في حديثي لكم القصة عن السرد، ففيها موعظة جليلة من قبل ومن بعد،
وإني في هذا أحدثكم عن فتح دمشق، درة الشرق…
جَزاكُمْ ذو الجَلالِ بَني دِمَشقٍ
وَعِزُّ الشَـرقِ أَوَّلُهُ دِمَشقُ
ففي أواخر شهر تشرين الثاني من ذلك العام، وقبل حديثي معكم بأيام، أطلق المجاهدون في المناطق المحررة، عملية عظيمة مظفرة، أسموها بعملية “ردع العدوان”، وكانت لسوريا كأنها “الطوفان”، فانساح المجاهدون من إدلب، إلى وسط سوريا من كل حدبٍ وصوب، انطلقت العملية بالسريّة، يقودها الأفذاذ ذوي الحميّة، أمطروا نقاط جيش النظام بالحمم على عجالة، فمزقوا العدو فوالله هم الحثالة، والأبطال يذرفون الدماء العالية، في سبيل الله والسلعة غالية، وبدأت العملية بتحرير المدن والقُرى، واحدةً بعد أُخرى، ووصلت إلى الطريق المسمى “إم خمسة”، وأصبحت المدن الكبرى مشتاقةً غرسه.
وفي التاسع والعشرين من تشرين، دخل الأباة مدينة حلب، جؤنة الأحلام وموئل العجب، ولم تغرب شمس ذلك اليوم، حتى رُفعت رايات الحرية في ساحة الجابري، وأكتب هذه الكلمات ودموعي تُتلف حبري، وفي اليوم التالي (30/11) سيطروا على قلعة المدينة المهيبة، التي تحمل إرث صلاح الدين والأمراء، وأزالوا رجس الأسرة الباغية من الأرجاء. ولم يضع الرجال أرحالهم، ولم يتركوا وقتًا لأقواتهم، وما رضوا أن يُغمد لهم سيف، وأرادوا أن يذيقوا الظلمة الحيف، إذ تتبدد أمام جحافلهم الزيف، وما كان هذا الهيكل إلا كالعرجون القديم، يتهاوى أمام البطولات في الجحيم.
وفي اليوم نفسه اتجهت أرتالهم إلى مدينة أبي الفداء، على الرغم من الجراح والدماء، وللأحرار فيها من قديم الدهر ثأر، ما تراخوا عنه أبد الدهر، فقد شهدت في عهود الطغمة مجازر مروعة، ومآسي مفزعة، وكان أهلها في الثمانينات بين مقتولٍ وفريسة، في عهد السفاحين أبناء أنيسة، وقد استعد فيها من بقي للباغية من فلول، واستنفروا بقاياهم الطائفية ظنوها آخر الحلول، فكانت المعارك مستعرة، وكلّ بطلٍ كأنه قسورة، والواحد منهم يواجه جمهرة، ولم يأتِ الخامس من شهر كانون، إلا ورايات الحق ترفرف فوق النواعير، وكان سقوط حماة المسمار الأخير، في نعش نظام الإجرام الشرير، فكانت في مدى النظر حمص عاصمة الثورة، والعين والقلب على دمشق المقهورة.
وقبيل إحاطة الثوار بالعاصمة ورفع علم الدول فوق الرؤوس، كان الفأر يلملم ما بقي له ويهرب بالتنسيق مع الروس، وشهدت الساعات الأولى من فجر الثامن من ديسمبر/كانون الأول، فرض السيطرة على العاصمة بالشكل الأمثل، ووضع المقاتلون أيديهم على المؤسسات والأوابد، وسط غياب أذناب النظام البائد، وأذيع الخبر قبيل طلوع النهار، بأن سوريا قد استفاقت من دون المجرم بشار.
وكُلل مشهد الانتصار، بخطاب النصر من قلب المسجد الأموي، ألقاه أحمد الشرع ذاك القائد الأبيّ، أكد فيه به أن “النصر الذي تحقق هو نصر لكل السوريين”، وقد فاضت مقلتاي بدموع الحنين، مشددًا على أن “الرئيس المخلوع بشار الأسد نشر الطائفية، وأن البلاد أصبحت اليوم لجميع أبنائها”، فصدح التكبير ليهز أرجائها، وتكللت سنوات الثورة بهذا الانتصار، وحق لنا معهم الفخار، فما كان حلمًا منذ 14 عاما، أصبح واقعًا مقاما، وما كانت مطالب الحرية لديهم أوهاما.
هذه شذراتٌ مما حصل، وفيما سيأتي مزيد فالطريق لمن سلكه ووصل، فما كتبت هذه المقامة، إلا تخليدًا لذكرى النصر وزوال الغمامة، والعُقبى بعون الله لكل بلادنا المكلومة، وأن تستعيد الشعوب المبادرة، وتقطع الأيدي الغادرة، وأن أكتب لكم عن تحرير القدس والأقصى، وانتصار غزة مع الأخصّا.