[ المقالة ]

آخر الأسفار

main-qimg-577dd63068ddf429bd5bf6c77de1b76d-c

وسط الفوضى اليومية والضوضاء المستمرة، يأتي السفر الأخير كنقطة صمت مطلقة، كفاصل بين الوجود والعدم، بين الأمس والغد الذي لن يأتي، هو السفر الذي لا تودع فيه المسافرين، ولا تحمل حقائب، ولا تخطط له بإرادتك، إنه الرحيل الذي يأتي دون استئذان، يخترق حواجز الزمن والمكان، يتجاوز أحلام الليل والنهار، ليضع نقطة النهاية على قصة الحياة.

الرحيل النهائي: هو السفر الأخير الذي يخوضه كل إنسان، سفر يتجرد فيه من كل شيء، يترك وراءه الأحبة والذكريات، الأماني والأحلام، الألم والأمل، هو السفر الذي لا يعرف فيه المرء متى يحين موعده، ولا إلى أين يقوده مساره، هو اللحظة التي تتوقف فيها عقارب الساعة، وتصمت فيها أصوات الدنيا، ويبقى الإنسان وحيدًا في مواجهة مصيره الأبدي.

في هذا الرحيل، لا توجد خرائط، ولا إشارات، ولا دلائل. الطريق مجهول، والمصير مستور، يقف الإنسان على عتبة الأبدية، ينظر إلى الوراء للمرة الأخيرة، يتأمل ما مضى من عمره، يتذكر لحظات الفرح والحزن، النجاح والفشل، اللقاء والفراق. ثم يغمض عينيه، يتنفس الصعداء، ويسلم الروح إلى بارئها.

المغادرة الأخيرة: ليس نهاية المطاف فحسب، بل هي بداية جديدة، رحلة إلى عالم آخر، عالم الخلود والبقاء، هي الانتقال من حياة فانية إلى حياة باقية، من عالم الأسباب إلى عالم العواقب، من دار العمل إلى دار الجزاء، في هذا الرحيل، يُفتح الستار عن حقائق الوجود، وتُكشف الأسرار التي طالما حيرت الإنسان.

الانتقال السرمدي، الحقيقة الوحيدة التي لا يمكن إنكارها، فكل شيء في هذه الحياة معرض للزوال، إلا الموت، فهو اليقين الذي لا يتبدل ولا يتغير، ومع ذلك، يعيش الناس في غفلة عن هذه الحقيقة، يتعلقون بالدنيا وزخرفها، ينسون أن كل شيء هنا مؤقت، وأن الرحيل النهائي قادم لا محالة.

في الوداع الأبدي، يتساوى الناس جميعًا، الغني والفقير، القوي والضعيف، الحاكم والمحكوم، لا تفرقة بينهم في الموت، فكلهم يذهبون إلى نفس الوجهة، كلهم يتركون الحياة بنفس الطريقة، بلا متاع، بلا مقدمات، بلا استعدادات. المسير الأخير هو المساواة العظمى، حيث يلتقي الجميع عند نقطة واحدة، بغض النظر عن مكانتهم ومناصبهم أو أدوارهم في الحياة.

ومع ذلك يختلف الناس في استقباله، بعضهم يخاف منه ويهرب من التفكير فيه، وبعضهم يستعد له بالعمل الصالح والإيمان، وبعضهم يتقبله كجزء لا يتجزأ من الحياة، هذه اللحظات تعد اختبارًا للإيمان والقيم، تكشف عن جوهر الإنسان وحقيقة إيمانه.

آخر الأسفار: هو العودة إلى الأصل، إلى الخالق، إلى البداية التي منها انطلقنا، السفر الذي يعيدنا إلى حيث كنا قبل أن نكون، إلى السكون بعد الحركة، إلى الصمت بعد الكلام، إلى السلام بعد الصراع، السفر الذي يُعلمنا أن الحياة مهما طالت، فهي قصيرة، وأن الأهم ليس كم عشنا، بل كيف عشنا.

وهكذا تظل المغادرة لغزًا يحيط بالإنسان، يذكره بأنه مسافر في هذه الدنيا، وأن محطته الأخيرة محتومة، يظل الانتقال النهائي هو الحقيقة الأزلية التي تواجه كل واحد منا، وتدعونا للتأمل في معنى الحياة والموت، وفي السر العظيم الذي ينتظرنا في نهاية المسير.

في الوداع الأبدي يتساقط كل ما هو زائف ومؤقت، ويبقى الجوهر، يبقى ما كان صادقًا وحقيقيًا في حياة الإنسان، تلك الأعمال الطيبة، تلك الكلمات الصادقة، تلك النوايا الخالصة، هي ما تتبع الإنسان في رحلته الأخيرة، فالمغادرة الأخيرة هي انعكاس لحياة الإنسان، مرآة تعكس ما قدمه من خير أو شر في دنياه، وفي الحديث، قال عليه الصلاة والسلام: (إذا مات الإنسانُ انقطع عنه عملهُ إلا من ثلاثةٍ: إلا من صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له)([1]).

وفي هذه المفارقة يكتشف الإنسان معنى الوحدة الحقيقية، فعلى الرغم من وجود الأحبة والأصدقاء، يواجه كل إنسان هذا السفر وحده، لا يمكن لأحد أن يشاركه تجربته، ولا يمكن لأحد أن يخفف عنه وطأة الانصراف، إنها لحظة الانفصال النهائي، لحظة الوداع الأخير الذي لا رجعة فيه، وقد صور الله سبحانه وتعالى هذه اللحظات بقوله: {ﱝ ﱞ ﱟ ﱠ ﱡ ﱢ ﱣ ﱤ ﱥ ﱦ ﱧ ﱨ ﱩ ﱪ ﱫ ﱬ ﱭ} [سورة الواقعة:83-85].

المفارقة الأخيرة تعلمنا أيضًا قيمة الزمن، ففي لحظات الوداع، يدرك الإنسان كم كانت اللحظات التي عاشها ثمينة، كم كانت الأنفاس التي تنفسها غالية، يتذكر الوقت الذي أمضاه في الحب والعطاء، ويتمنى لو أنه قدم أكثر، لو أنه أحب أكثر، لو أنه عاش كل لحظة بكامل وعيه وإدراكه، وفي الحديث، عن أبي برزة نضلة بن عبيد الأسلمي رضي الله عنه، قال: قال رسول الله ﷺ: (‌لَا ‌تَزُولُ ‌قَدَمَا عَبْدٍ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حَتَّى يُسْأَلَ عَنْ عُمُرِهِ فِيمَ أَفْنَاهُ، وَعَنْ عِلْمِهِ فِيمَ فَعَلَ، وَعَنْ مَالِهِ مِنْ أَيْنَ اكْتَسَبَهُ وَفِيمَ أَنْفَقَهُ، وَعَنْ جِسْمِهِ فِيمَ أَبْلَاهُ)([2]).

آخر الأسفار يعلمنا أن الحياة ليست إلا محطة قصيرة، محطة نعبر من خلالها إلى الأبدية، يعلمنا أن كل لحظة عشناها كانت ثمينة، أن كل ضحكة وكل دمعة كانت جزءًا من رحلتنا، يعلمنا أن الحب الذي قدمناه والخير الذي فعلناه هو ما سيبقى خالدًا بعد رحيلنا.

يأتي الرحيل النهائي ليكشف لنا عن معنى الحياة الحقيقي، يكشف لنا أن الحياة لم تكن عبثًا، وأن كل شيء كان له غاية وهدف، يكشف لنا أن الأرواح التي أحببناها والتي سبقتنا في هذا الرحيل، لم تفارقنا حقًا، بل هي تنتظرنا في مكان لا يعرفه إلا الله سبحانه وتعالى.

المفارقة الأخيرة تمثل ذلك الزمان الفاصل حيث نقف أمام ذواتنا، نتأمل ما قدمنا وما خلفناه للتاريخ، إنها اللحظات التي نعي فيها قيمة الأوقات التي مرت، وندرك أن الحياة التي منحت لنا كانت نعمة عظيمة لا تُعوض، تلك هي الأوقات التي نفهم فيها أن كل ما عايشناه كان مسارًا لبلوغ هدف أسمى، الهدف الذي هو اللقاء بالخالق جل وعلا.

في هذه المفارقة نلوح وداعًا للحياة الأرضية، متسلحين بالأمل في قلوبنا، بنية الوصول إلى رحمة الله الواسعة، وبتطلع إلى جنان عرضها كعرض السماوات والأرض. نغادرها وفي أنفسنا يقين أن كل عمل خير قمنا به سيكون نورًا يقودنا، وكل صعاب واجهتنا ستكون دافعًا لتعلي الدرجات.

ومع ذلك ينثر الانتقال بذور الرجاء في دربه، فليس بالختام المحتوم، بل بمثابة فجر جديد يلوح في أفق آخر، عالم نؤمن بوجوده وإن غاب عن أبصارنا، إنه العبور من زوال الحياة الدنيا إلى خلود الآخرة، من الوجود المؤقت إلى البقاء الدائم.

في الوداع الأخير يجد الإنسان نفسه أمام الحقيقة الكبرى، حقيقة الخلق والبعث والحساب، يقف كل إنسان بمفرده أمام خالقه، يحاسب على كل صغيرة وكبيرة، على كل قول وفعل، وفي هذا الحساب، لا ينفع الندم ولا تجدي الأعذار، فقط الأعمال الصالحة هي التي تكون للإنسان عونًا ونصيرًا.

وبهذه الطريق يستقر الانتقال كحقيقة متجلية بوضوحها ومستترة بأسرارها، فهو الرحلة التي تنسج من اليقين والغيب قصة، وترسم معالم النهاية والبداية، وتخلق من الفراق فرصة للقاء. إنها الرحلة التي ترفعنا لفهم أن الحياة تتعدى مجرد الوجود الظاهر، وأن الموت ليس إلا انفتاحًا على عالم آخر، عالم الأبدية والسرمد.

تبقى الرحلة: هي السفر الحتمي الذي يمتحن إيماننا ويصقل مصيرنا، هي الرحلة التي يتعين علينا الاستعداد لها بكل ما نمتلك من عزم وإيمان، لأنها الرحلة التي لا عودة بعدها، الرحلة التي تفتح أمامنا أسرار الوجود وألغاز الخلود.

في هذا الانتقال، نترك وراءنا كل ما هو معروف، نودع الأرض التي شهدت أيامنا، نفارق الأيدي التي ارتبطت بأيدينا، نغادر الأصوات التي رافقتنا في الضحك والبكاء، نترك الحياة بكل ما تحمله من روعة وألم، من مودة ورفض، من صدق وتزييف، نتركها ونحن ندرك أن العودة إليها لم تعد في الحسبان.

وأخيرًا، يأتي الرحيل النهائي ليذكرنا بأن الحياة كانت رحلة اختبار، اختبار لإيماننا وصبرنا وشكرنا، يذكرنا بأن كل شيء كان معدًا لهذه اللحظة، لحظة الانتقال من الفاني إلى الباقي، من الأرض إلى السماء، من الحياة الدنيوية إلى الحياة الأبدية.

فلنعش حياتنا بكل ما أوتينا من قوة وإيمان، ولنستعد للرحيل النهائي بقلب مطمئن وروح مسالمة، فهو السفر الذي فيه تكمن حقيقة وجودنا ومعنى رحلتنا في هذه الدنيا، ولنتذكر دائمًا أن الرحيل النهائي هو بداية الحياة الحقيقية، حياة لا نهاية لها، حياة ملؤها السلام والسعادة الأبدية.


([1]) رواه مسلم في كتاب الوصية، باب ما يلحق الإنسان من الثواب بعد وفاته (3/1255).

([2]) سنن الترمذي:  (4/ 217).