تتصاعد اعتداءات الاحتلال وأذرعه المختلفة بحق القدس المحتلة عامة، والمسجد الأقصى على وجه الخصوص عامًا بعد آخر، إذ تحاول هذه السلطات أن تنهي المعركة على هوية القدس، إذ تتعامل مع المدينة على أنها “عاصمة” الكيان المزعوم، فتحاول بكل ما تمتلكه من أدوات لتغيير هوية المدينة العربية والإسلامية، وتحولها إلى مدينة يهودية بما فيها من معالم وسكان.
وأمام مخططات التهويد هذه، يشكل المسجد الأقصى عقبة كأداء أمام الاحتلال، لما لديه من موقع راسخ؛ إن من حيث الأهمية الدينيّة للمسجد، أو ما لديه من علاقة وجدانية مع المؤمنين، وصولًا إلى موقعه الحالي في الصراع مع الاحتلال، ومركزيته في إطلاق الهبات والانتفاضات المتتالية. وأمام هذه الأهمية وفي ضوء ما يعانيه المسجد من مخاطر عديدة، تبدأ من محاولات الاحتلال تثبيت الوجود اليهودي في المسجد الأقصى، وإزالة الوجود البشري الإسلامي منه، مرورًا بتهويد أسفل المسجد ومحيطه، وأخيرًا بحسم الهوية الدينيّة للمسجد، وتحقيق سيطرة الاحتلال النهائية وما يتصل بهذه السيطرة من أهداف.
ونتناول في هذه السلسلة من المقالات ما يعانيه المسجد الأقصى من استهداف متصاعد، وما تستخدمه سلطات الاحتلال من أدوات لتفرض وجود مستوطنيها داخل جنباته، مع الإحاطة بأبرز ما تقوم عليه أذرع الاحتلال المختلفة، لتكون زادًا معرفيًا يعين على العلم، وتسهم في تشكيل ولو جزء يسير جدًا من الحراك المتضامن والمتفاعل مع فلسطين، والمناهض للعدو.
الأقصى من إسقاط رمزيته إلى هدمه
يقتحم المستوطنون المسجد الأقصى بشكلٍ شبه يومي، وقد تصاعدت هذه الاقتحامات بشكلٍ متدرج منذ عام 2001 وحتى اليوم، بالتوازي مع تصاعد المخاطر التي يتعرض لها المسجد، وفي السنوات الماضية ومع تزايد قدرة المنظمات المتطرفة على تحقيق المزيد من السيطرة على الأقصى، وتعزيز علاقاتها السياسية والأمنية مع مكونات الاحتلال الأخرى، وتسخير هذه العلاقات في رفع مستوى الاعتداء على المسجد ومكوناته البشريّة، شهدت السنوات الماضية تصاعدًا في استهداف الأقصى ومكوناته البشرية، بشقيها الرسمي والشعبي، فقد استهدفت أذرع الاحتلال الوجود الفعلي البشري المتمثل بالمصلين والمرابطين، وعملت على تحجيم الوجود الإداري الذي يُشرف على المسجد ويعتني بشؤونه، وهو ما يُمكن أن نسميه أبرز الأهداف الحالية في تقليل أعداد القادمين إلى المسجد، والمرابطين داخله، في مقابل رفع حجم اقتحامات المسجد الأقصى وكثافتها.
ومن خلال استقراء سلوك الاحتلال وأذرعه المختلفة، تنقسم استراتيجيته إلى مجموعة من الخطوات، في الخطوة الأولى: ركزت أذرع الاحتلال عملها على إسقاط رمزية الأقصى، من خلال رفع حجم الاعتداءات بحق المسجد ومكوناته البشرية، واقتحامه بشكلٍ شبه يومي، ورفع أعداد المقتحمين، ومحاولة الاستفادة من حالة التردّي العربي، على أثر “الردة” عن الربيع العربي، وعودة الاستبداد إلى الواجهة خلال العقد الماضي، ومن ثمّ موجات التطبيع، للاستفراد بالأقصى، وفتح العنان للاحتلال ومنظماته المتطرفة لتحقيق المزيد من الخطوات العملية في فرض السيطرة على المسجد والتحكم به.
أما خطوة الاحتلال الثانية، فينفذها عبر محاولة فرض السيادة الكاملة على المسجد، وهي سيطرة بدأت أمام أبواب المسجد، عبر الحواجز الحديديّة، وفرض القيود العمرية، واقتحام الأقصى بشكلٍ عنيف ومتكرر، إضافةً إلى التدخل في شؤونه، وعمل دائرة الأوقاف الإسلامية، إذ تُمنع الفرق التابعة للدائرة من ترميم أبنية الأقصى ومصلياته وساحاته على حدٍ سواء، وصولًا إلى تحديد من يستطيع الوصول إلى المسجد، للرباط والاعتكاف والعبادة وغيرها، وتحاول سلطات الاحتلال أن تشمل هذه السيطرة كل ما في الأقصى من خلال فائض القوة والتغول.
ومع تنامي سيطرة الاحتلال على المسجد من خلال القوة، اتجه للمضي نحو الخطوة الثالثة، وهي تقسيم المسجد الأقصى زمانيًا، ومن ثمّ مكانيًا، وعلى الرغم من الحديث المتكرر بأن التقسيم الزماني أصبح أمرًا واقعًا، إلا أن الهبات الفلسطينية المتكررة، تعيد التقسيم إلى المربع الأول، وتُجبر الاحتلال على إغلاق المسجد أمام الاقتحامات، وبالتوازي مع محاولات التقسيم هذه، تسعى سلطات الاحتلال إلى انتزاع اعتراف دوليّ بحقّ اليهود في الصلاة في الأقصى.
ومع تقاطع الكثير من الخطوات السابقة، يُمكن الحديث عن الخطوة الرابعة بأنها تركزت على تهويد أسفل المسجد الأقصى ومحيطه، من خلال عددٍ كبير من الحفريات التي أثّرت على المسجد وأضرت بأساساته، وجعلت الكثير من معالم المسجد آيلة إلى السقوط، مع تحويل الكثير من هذه الحفريات إلى قاعات تروج مزاعم الاحتلال وروايته، وتخدم مستوطنيه.
أما الخطوة الخامسة والأخيرة لدى الاحتلال فتتركز في هدم المسجد الأقصى -لا قدر الله-، وبناء “المعبد” المزعوم مكانه، وهي ذروة استراتيجيتهم، والقمة التي يريدون الوصول إليها.
الاقتحامات الأداة الأولى
يتعرض المسجد الأقصى لحملة شرسة من قبل سلطات الاحتلال وأذرعها المختلفة، إذ تتنوع الاعتداءات على المسجد من اقتحامات شبه يوميّة، وأداء الطقوس اليهودية العلنية داخل ساحاته، واستهداف العنصر البشري الإسلامي من مصلين ومرابطين، إضافةً إلى الحفريات أسفل المسجد وفي محيطه، وتهويد محيط الأقصى من خلال العديد من المشاريع التهويديّة.
وكما أسلفنا فقد حولت أذرع الاحتلال التهويديّة اقتحام الأقصى إلى اعتداء ثابت، يتكرر بشكلٍ شبه يوميّ، وتعمل هذه الأذرع على رفع حجم مقتحمي الأقصى عامًا بعد آخر، من خلال إشراك المزيد من الشرائح الاجتماعية في مجتمع المستوطنين في هذه الاقتحامات، إلى جانب استخدام الأعياد اليهوديّة والوطنية على حدٍ سواء مناسباتٍ لتدنيس المسجد والاعتداء على مكوناته البشرية، ورفع أعداد المشاركين في الاقتحامات، وأبرز الأعياد الدينية هي “عيد الفصح اليهودي” وذكرى “خراب المعبد”، أما تلك الوطنية الإسرائيلية فأبرزها “يوم توحيد القدس” ويوم “تأسيس دولة الاحتلال”.
ما هو التقسيم الزماني والمكاني؟
تشكل مخططات الاحتلال لتقسيم الأقصى زمانيًا ومكانيًا سياسة ثابتة لدى المحتلّ، وكانت محاولات الاحتلال لتحقيق هذا التقسيم دافعةً لاعتداءات أخرى نشهدها حاليًا، وسنتناولها في المقال القادم، وفي النقاط الآتية أبرز مظاهر وتطورات هذه المخططات:
أولًا: التقسيم الزماني
ثبت الاحتلال أوقاتًا بعينها لاقتحام المستوطنين باحات المسجد، وهي من الساعة 7:30 حتى الساعة 11:00 صباحًا ومن الساعة 1:30 حتى الساعة 2:30 ظهرًا، وتضيف أذرع الاحتلال ساعة مع بداية استخدام التوقيت الصيفي، وتحاول أذرع الاحتلال منع المسلمين من الدخول للمسجد في هذه الأوقات وجعلها حصرية لليهود، وتسمح للمستوطنين اليهود بأداء طقوسهم اليهودية العلنية في ساحات المسجد.
وقد تضمنت المخططات الأولى لتقسيم الأقصى زمانيًا، أن يتم تخصيص أوقات خاصة للمسلمين، على أن لا تشهد مناسبات المسلمين وأعيادهم أي اقتحامات. في المقابل، تُخصص أوقات خاصة لليهود، ويُمنع المسلمون من الدخول إلى الأقصى في الأعياد والمناسبات اليهوديّة. وعلى أثر ثبات المرابطين في الأقصى، وعدم قدرة أذرع الاحتلال على تحقيق التقسيم الزماني بصورته السابقة، بدأت هذه الأذرع منذ عام 2019 باقتحام الأقصى بالتزامن مع الأعياد الإسلامية، وإن تزامنت مع واحدة من المناسبات اليهوديّة، وتصعيد أداء الطقوس اليهوديّة العلنية.
وشهد المسجد الأقصى في السنوات الماضية جملةً من التطورات أسهمت في فتح المجال أمام المزيد من الاقتحامات وهي:
- في عام 2003 فتح المجال أمام الأفراد من المستوطنين لاقتحام المسجد الأقصى.
- في عام 2006 السماح للمجموعات باقتحام المسجد الأقصى.
- في عام 2012 تقديم مشروع قانون لتقسيم المسجد الأقصى زمانيًا.
- في عام 2015، شهد المسجد الأقصى محاولاتٍ لتحقيق التقسيم الزماني التام، من خلال استهداف مكونات الأقصى البشرية، وخاصة حظر الرباط في الأقصى، وإغلاق مؤسسات الحركة الإسلامية الجناح الشمالي، التي كان يقودها حينها الشيخ رائد صلاح.
ثانيًا: التقسيم المكاني
يحاول الاحتلال الوصول لمرحلة يحدد فيها مساحات خاصة من المسجد الأقصى ليخصصها لليهود، وقد أظهرت جملةٌ من مخططات الاحتلال نيةً مسبقة لتقسيم الأقصى، خاصةً إصرار أذرعه المختلفة على التعامل مع ساحات المسجد على أنها “ساحات فارغة” أو “عامة”، ومن أبرز تلك المخططات:
- مخطط 2020: نُشر في عام 2004، وتعامل مع ساحات الأقصى على أنها ساحات عامة وليست جزءًا من المسجد الأقصى.
- قدمت بلدية الاحتلال في المسودة الرابعة للمخطط الذي نشرته عام 2005 خريطةً للأماكن المقدسة في البلدة القديمة بالقدس، عدت فيها الحي المسيحي في القدس منطقة مقدسة، بينما قصرت بالمقابل الأماكن المقدسة الإسلامية في الأقصى على المصلى القبلي ومصلى قبة الصخرة فقط، وأبقت بقية ساحات المسجد منطقةً بيضاء، بما يعني أنها مجرد منطقة أثرية مفتوحة للجميع.
- في حزيران/ يونيو 2012، سمح الاحتلال للمؤسسات التخطيطية في القدس المحتلة بالشروع في تنفيذ مخططات هيكلية، تقضي بتهويد تخوم الأقصى وساحة البراق بإقامة مراكز تهويدية وكنس وحدائق توراتية.
ومنذ عام 2019 يُشير سلوك منظمات الاحتلال المتطرفة إلى أن هناك استهدافًا ممنهجًا للساحات الشرقية من المسجد الأقصى، وخاصة مصلى الرحمة ومحيطه، وتجلى ذلك من خلال إفراغ الساحات الشرقية للمسجد من المرابطين بشكلٍ دائم وخاصة بالتزامن مع أوقات الاقتحامات، وحرص مقتحمي الأقصى من المستوطنين على أداء الطقوس اليهوديّة العلنية في محيط المصلى، وفي ساحات المسجد الشرقية، ويمكن تسليط الضوء على اعتداءات أخرى تدلل على استهداف أذرع الاحتلال لهذا الجزء من المسجد:
- أخذ قياسات للباب عدة مرات من داخل الأقصى ومن خارجه، بالتزامن مع الأحداث والتطورات المختلفة الذي شهدها المسجد.
- محاولة إبقاء مصلى باب الرحمة مغلقًا.
- استهداف مقبرة الرحمة، واقتطاع أجزاء منها لإقامة “حدائق توراتيّة”.
- منع إزالة الركام من المساحات المحيطة بمصلى باب الرحمة.
- اقتحام المصلى بشكلٍ متكرر، وتخريب محتوياته، وإفراغ ما فيه بالقوة.
- تخريب شبكات الكهرباء والصوت في المصلى أكثر من مرة.
أخيرًا:
ورغم مضي سنوات عدة من تركيز مستويات الاحتلال المختلفة على هذين المخططين، إلا أنهما قد جوبها بالصمود الفلسطيني في القدس المحتلة، وواجها هبات فلسطينية متتالية، أحبطت مخططات الاحتلال ودفعته إلى تغيير مخططاته في السنوات الخمس الأخيرة، وهو ما سنتناوله في المقال القادم.