عام 603هـ / 1206م ظهرت دولة المغول على يد قائدهم الأعظم “تيموجين” الملقب بـجنكيز خان، وبدأت جيوشهم الجرارة بمهاجمة أراضي الأمة الإسلامية بدءاً من الدولة الخوارزمية وما يليها، وما مرت خمسون سنة على إنشاء دولتهم حتى وصلوا إلى العراق والشام في حملة عسكرية كبيرة تضم مئات الآلاف من الجنود المغول وحلفائهم بقيادة “هولاكو” الحفيد المباشر لجنكيز خان.
وقد كان توجُّه “هولاكو” إلى الشام والعراق بدعم كامل من أخيه الملك الأعظم لبلاد المغول والصين “مونكو خان” وما انقضى عام 656ه / 1258م حتى سقطت بغداد في أيديهم وقتل الخليفة “المستعصم” آخر ملوك بني العباس في العراق بين يدي هولاكو، وتوجه بعدها إلى الشام فاحتل مدنها واحدة تلو الأخرى وذبح الناس فيها وتمت له السيطرة عليها عام /658هـ/ بسقوط دمشق واحتلالهم فلسطين، ليقفوا وجهاً إلى وجهٍ مع دولة المماليك في مصر بقيادة ملكهم الشاب “سيف الدين قطز” الذي وقع على كاهله أن يكون البطل الذي سيقوض بنيان المغول ويهدم صروح طغيانهم على رؤوسهم.
لقد كانت الأمة الإسلامية من شرقها إلى غربها في حالة يرثى لها، وكان قدر دولة المماليك أن تحمل مسؤولية الأمة المحمدية كلها، وليس أمامهم خيار إلا القتال حتى النصر أو الشهادة.
أرسل هولاكو رسالة تهديد إلى ملك مصر الشاب يأمره فيها بتسليم بلاده والتذلل بين يديه والقبول بحكمه، فما كان من قطز إلا أن قتل رسل هولاكو بعد أن أساؤوا الأدب معه، ليرسل بذلك رسالة واضحة إلى المغول بأنه ليس لهم منه إلا الحرب.
المغول:
كانت جيوش المغول الجرارة تنتظر الهجوم على مصر للقضاء على آخر ممالك الإسلام القوية، ولكن الله كان قد أيد دينه بإسلام حاكم روسيا الأمير المغولي “بركة خان” الحفيد المباشر لجنكيز خان، عام /650ه/ على يد بعض علماء بخارى، فقام ببث الشقاق بين إخوة هولاكو انتقاماً منهم على ذبحهم المسلمين وقتلهم الخليفة العباسي، بعد أن وعدوه وأخاه الأمير “باتو” ألا يقوموا بمهاجمة الدولة العباسية التي أعلن بيعته لخليفتها قبل سنوات من سقوطها، فاضطر هولاكو للرجوع بقسم كبير من جيشه إلى بلاده لمساندة أخيه “قوبلاي” في حربه على أخيهما الآخر “أرتق بوكا” المدعوم من ابن عمه حاكم روسيا “بركة خان”، وترك القسم الثاني من جيشه في الشام بقيادة مساعده الشهير “كتبغا”.
كتبغا:
كان كتبغا رجلا مغولياً يدين بالنصرانية وكان مشهوراً بالدهاء والمكر والشجاعة، وكان “هولاكو” لا يحيد عن رأيه، وقد استطاع بمشورته أن يسيطر على بلاد فارس والعراق والشام في بضع سنوات، وقيل لولا كتبغا لما تم ذلك للمغول… وبالفعل ما أن رجع هولاكو حتى أكمل نائبه “كتبغا” احتلال فلسطين ثم رجع إلى سهل البقاع وعسكر فيه ينتظر الفرصة المناسبة للهجوم على مصر.
قطز:
على الجهة الأخرى من فلسطين وفي بلاد النيل تحديداً كان السلطان “سيف الدين قطز” يُعدُّ العدة لصد جيوش المغول، وهو شاب يرجع نسبه – على ما قيل – إلى الخوارزميين الذين سقطت دولتهم وقتِّلت أمراؤهم على يد المغول، بيع عبداً وهو طفل صغير حتى وصل إلى بلاد مصر فاشتراه الملك الصالح “نجم الدين أيوب” وضمه لصفوف جيشه فاشتهر بقوته وانضباطه وترقى في قيادة قواته حتى أصبح حاكم البلاد، كانت الأوضاع الاقتصادية في مصر بالغة السوء بسبب اقتراب جيوش المغول وكانت الناس موقنة بالهلاك تنتظر أن يحل بها ما حلَّ بباقي ممالك الإسلام، وكان أول ما قام به “قطز” الذي تسلم السلطة حديثاً بعد عزل السلطان الطفل “نور الدين علي بن المعز أيبك” أن قبض على رؤوس الفتنة فأودعهم السجون، وأصدر عفواً عاماً عن كل المماليك البحرية الذين فروا من مصر في سنوات الاضطراب وعلى رأسهم الأمير “بيبرس البُنْدُقْدَارِيُّ” حيث رجع مع جنوده الأشداء وانضموا مجدداً إلى قوات مصر فازداد جيش قطز بهم قوة إلى قوته، ثم قام الأمراء بالتخلي عن كل أموالهم لصالح الجيش بتوجيه من الشيخ العز بن عبد السلام وإصرار من السلطان “قطز”، ثم فرض الضرائب بالقدر الذي يحتاجه جيشهم وما مرت شهور حتى اكتملت تجهيزات الجيش المصري وصار على أهبة الاستعداد منتظراً قرع طبول الحرب.
المسير إلى المعركة:
أصدر “سيف الدين قطز” أمراً بتجمع الجيش في منطقة الصالحية التي تقع فيما يعرف اليوم باسم “محافظة الشرقية”، فاجتمع الجيش كله ينتظر المسير لملاقاة المغول فقام السلطان بفرز نخبة الفرسان والشجعان في جيشه وكوَّن منهم فرقة كبيرة بقيادة الأمير “بيبرس” مهمتها كشف الطريق والاشتباك مع طلائع التتار… كما أمرهم بإظهار أنفسهم أينما حلوا ليتم لهم بذلك التغطية على تحركات الجيش الرئيسي الذي سار خلفهم بأيام سالكاً الطرق المهجورة لئلا تصل الأخبار صحيحة إلى المغول.
سار بيبرس بمقدمة الجيش حتى وصل غزة فهزم كتائب المغول المتمركزة فيها وشتت جنودهم فتم له تحريرها، بينما كان الجيش الرئيسي بقيادة قطز لا يزال في صحراء سيناء… وما أن وصلت أخبار الهزيمة إلى القائد المغولي “كتبغا” حتى قام على الفور بتجهيز جيشه والتوجه نحو فلسطين، وأما قطز فقد تابع مسيره باتجاه مملكة عكا الصليبية، التي عقد اتفاق سلام معها، فخيم أياماً بقربها وزود جيشه بالمؤن، ثم تحرك باتجاه سهل “عين جالوت” ينتظر قدوم المغول.
خطة المعركة:
كانت منطقة “عين جالوت” عبارة عن سهل فسيح تحيط به التلال من جهات ثلاثة بينما تبقى الجهة الشمالية منه مفتوحة كالبوابة لتكوِّن معاً شكل صندوق مفتوح… اختبأ الجيش الرئيس في الغابات المحيطة بالتلال، بينما وقف بيبرس بجيشه الصغير على إحدى التلال القريبة من السهل بارزاً للعيان ينتظر ظهور “كتبغا” بجيشه، لعلهم ينخدعون به ويظنونه كامل الجيش المصري.
وما أن طلعت شمس يوم الجمعة يوم الخامس والعشرين من شهر رمضان عام /658ه/ حتى أشرف كتبغا على عين جالوت بجيشه الكبير، فانحدر “بيبرس” من تلته ووقف عند المدخل الشمالي للسهل وترك الأرض من خلفه كالصحن الفارغ، وفي الوقت نفسه ظهرت فرقة صغيرة من جيش مصر على رؤوس التلال وبدأت بقرع آلة الحرب لإخافة العدو وإرسال الإشارات إلى باقي فرق الجيش التي اتفقت قياداتها في اجتماع خاص على أن تكون كلمات السر بينهم عبارة عن نغمات ضربات الطبول التي يعني كل نوع منها أمراً خاصًّا لفرقة معينة من الجيش ليتم التحرك في أرض المعركة بانضباط تام، ويُطمأن إلى تنفيذ الخطة المتفق عليها بدقة بالغة.
المعركة:
ما أن رأى كتبغا صغر جيش المملوكي حتى أمر القسم الأول من جيشه بالانقضاض عليهم، فقام بيبرس بإعطاء الأوامر لفرسانه بالزحف نحوهم وتمكن من صد هجومهم ببسالة نادرة، ولما رأى كتبغا أن جيشه الأول لم يفعل شيئاً أمام فرسان المماليك المدربين قام بإعطاء الأوامر لباقي جيشه بالهجوم الكاسح ونزل معهم باتجاه “بيبرس” ولكن كل هذا لم يجد نفعاً مع هؤلاء الفرسان البواسل الذين شاغلوا جيش المغول إلى منتصف النهار دون أن تلين عزيمتهم أو تنكسر شوكتهم، إلى أن سمع بيبرس الطبول تقرع بالنغمة التي تعني الأمر بتنفيذ الانسحاب… فتظاهر بالهزيمة ودخل إلى قلب الصحن مع جنده، فأتبعهم القائد الهرم “كتبغا” بجنوده ليقضي عليهم، ولكنهم ما أن توسطوا السهل حتى نزل عليهم جيش مصر من كل صوب فطوقهم وأغلق عليهم مدخل السهل الشمالي وبدأت المعركة الحقيقية، حيث لا خيار لكلا الطرفين إلا النصر أو الموت، فسارع المغول بتنفيذ انسحاب منظم باتجاه مدخل السهل عبر قيامهم بهجوم كاسح على ميسرة المماليك أدت لسقوط الكثير من الشهداء وسقطت الميسرة تحت ضربات المغول، فقابلهم المماليك بقوة كبيرة ولكن قوة المغول كادت أن تكسر الحصار… كان “قطز” يراقب أرض المعركة من قمة إحدى التلال فما أن رأى ضعف الميسرة في جيشه حتى أرسل مجموعته الاحتياطية لمساندتها ولكن المغول كانوا مصممين على كسر الطوق… فقام “قطز” برمي خوذته ودخل ميدان المعركة بنفسه وهو يصرخ “وا إسلاماه وا إسلاماه” فتحمس الجنود عندما رأوه بينهم واستماتوا في القتال حتى نجحوا بكسر هجمة المغول، وكاد “قطز” أن يصاب بسهم قاتل لكن تلقاه فرسه بدلاً عنه، وتقدم أحد أمراء المماليك في هذه اللحظة مخترقاً صفوف المغول حتى وصل إلى قائدهم “كتبغا” فقاتله وما تركه حتى أنفذ رمحه في صدره وأخرجه من ظهره، فانهارت عزائم المغول وهم يرون قائدهم الأسطورة يتخبط بدمائه، قائدهم الذي كانوا يعدونه قبلُ قائداً مباركاً ومؤيداً من السماء لا يمكن لأحد أن يمسه بسوء، ولا يمكن أن يحضر حرباً ولا ينتصر فيها.
ما أن انتشر خبر مقتل “كتبغا” بين جنود المغول حتى بدؤوا يتجهون صوب مدخل السهل للانسحاب من المعركة بعد أن قتل أكثر جيشهم وبالفعل استطاع الآلاف منهم أن يخرجوا من الجهة الشمالية للسهل سالمين باتجاه مدينة “بيسان” والمسلمون في طلبهم، وهناك سارعوا بتنظيم الفرق الناجية من جيشهم، لملاقاة المسلمين ثانية فصدمهم قطز بجيشه وخاض معهم معركة حامية أخرى تأرجحت فيها الكفة بينهما، لكن وجود “قطز” بين جنوده وتذكيرهم بما سيحل للإسلام إن هم تهاونوا جعل الكفة تميل إليهم من جديد، فأنزل الله عليهم نصره وانكسر جيش المغول وبدأ ينهار رويداً رويداً تحت ضربات عساكر المماليك المدربة، فأحاطوا به من كل جانب وأعملوا فيه سيوفهم حتى أبادوه عن بكرة أبيه ولم ينج منه أحد، فقام قطز بكتابة رسالة إلى حامية المغول الموجودة في دمشق يخبرهم فيها بما حل لقائدهم المعظم “كتبغا” ولجيشهم الذي لا يقهر فانهارت معنوياتهم وضعفوا، ولما علم أهل دمشق بحالهم ثاروا عليهم فقتلوا من قدروا عليه منهم وفر الباقون.
دخول دمشق:
وأراد قطز أن يستثمر انتصاره فتابع مسيره حتى دخل دمشق في الثلاثين من رمضان عام /658ه/ وأرسل الأمير “بيبرس” بجيش صغير لفتح حمص وحلب وباقي مدن الشام، وما هي إلا أسابيع حتى تم تطهير الشام من رجس المغول، وأعلن قطز بلاد الشام ومصر مملكة إسلامية موحدة بعد سنوات من الفرقة والضياع، فولى على كل مدينة من يرعى شؤونها وقفل عائداً إلى مصر بعد أن أعز الله به الإسلام والمسلمين.