[ المقالة ]

مجتمعاتنا وثقافة العنف

1f7cdb14-a4f2-48b2-bf68-fee679f82040

لقد خلق الله الحيوانات وميزها بالشهوة والغضب، فبالشهوة تندفع لتحصيل منافعها وأطعمتها وأشربتها وبها تتزاوجُ فيُحفظ نسلها، وبالغضب يتقي الحيوان المهالك ويدافع عن نفسه ضد من يبغي هلاكه… وعندما خلق الله الإنسان ميزه زيادة على ذلك بالعقل والقلب، فبالعقل يحكم غريزتي الشهوة والغضب وبالقلب وما فيه من أسرار وأنوار يجد الطاقة والقوة لقهر جماح النفس عند شهوتها وغضبها.

جاء أبونا آدم عليه السلام إلى الدنيا مُعلَّمًا ومُعَلِّمًا، وقد تعلم من قصة أكل الشجرة درسا لن ينساه هو أو بنوه حتى قيام الساعة، لقد كان دافع إبليس للكذب على آدم وحواء والقصد إلى استزلالهما الحسد النابع عن غضب مشتعل… وكان أكل آدم من الشجرة بدافع الشهوة البشرية المرتكزة في أصل خلقة الإنسان.. قال الله تعالى: {فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشَّيْطَانُ قَالَ يَا آدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلَى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لَا يَبْلَى} [سورة طه: آية 120] وقد كان ذلك قدر الله ولهذا رفع الله عنه ذلك فقال: {وَلَقَدْ عَهِدْنَا إِلَى آدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْمًا} [سورة طه: آية 115].

في كتاب إحياء علوم الدين يبين الإمام أبو حامد الغزالي رحمه الله موضع الشهوة والغضب من التكوين البشري فيقول: ((اعلم أن البدن كالمدينة والعقل كملك مدبر لها، وقواه المدركة من الحواس الظاهرة والباطنة كجنوده وأعوانه، وأعضاؤه كرعيته، والنفس الأمارة بالسوء التي هي الشهوة والغضب كعدو ينازعه في مملكته ويسعى في إهلاك رعيته))، نعم إن الشهوة والغضب إذا لم يكبح جماحهما يصبحان عدوين لدودين للإنسان يوردانه المهالك، وإن ضبطهما الإنسان بضوابط العقل والقلب المؤمن أخذا بيده إلى الصلاح والفلاح، وقد جاءت الرسل لتهذيب طبائع الإنسان واستخدام قواه في الخير ومنعها من الانسياق إلى مواطن الزلل والشر.

العنف الطبيعي:

بقوة الغضب يسعى الإنسان لحماية نفسه من عدوه وبها تجتمع القبيلة على الحرب وتندفع الأمم لتأسيس الجيوش، وبدافع الشهوة والطمع تحاول بعض الأمم القوية السيطرة على ما في يد الضعفاء، ويغضب المُستضعفون وتغلي دماؤهم فيقومون لحماية أقوامهم وأهليهم وأوطانهم فيرتدع القوي، وبدافع العقل والقلب والالتزام بمقتضيات الإيمان يقوم المؤمنون بحرب الظلمة نصرةً للمظلومين وردعًا للظالم عن ظلمه وبغيه، وعندها تجتمع كلمة الباطل على حرب أهل الإيمان، وتغدو الحرب بينهم دولًا مرة لهذا وأخرى لذاك وقد تتوقف أزمانا، ويورث الله عباده الصالحين من أرضه ما يشاء أو يختبرهم ويبتلي إيمانهم فيعيشون فستضعفين فارين بدينهم.. وهذا هو قانون التدافع الإلهي الذي ذكره الله سبحانه بقوله {وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ وَلَكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ} [سورة البقرة: آية 251] وقوله سبحانه: {وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا} [سورة الحج: آية 40].

إن كل ما ذكر آنفًا من الحروب هو أمر طبيعي لا يخرج عن طبيعة وجود البشر في هذه الحياة ومقتضى تصرفهم الطبيعي وفقا للغريزة الطبيعية أو العقل والدين، وقد أرسل الله سبحانه الأنبياء لتنظيم الحياة عبر الإيمان وإصلاح النفوس لتعرف ما عليها لله أو للبشر فتؤديه وما لها فتحميه، وقد أرسل الله أنبياءه بنظام أخلاقي رفيع يرتقي بالبشر من دركات الغريزة إلى درجات المعرفة والحكمة، يقول الله عز وجل مشيرا إلى حب الناس الشهوات ومرغبا لهم بترك اتباع الشهوة اكتفاء بما عنده: {زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ} ويقول النبي صلى الله عليه وسلم محذرا من الغضب ((ليس الشديد بالصُّرَعة، إنما الشديد الذي يملك نفسه عند الغضب)) حديث متفق عليه.

وقد وجه القرآن الكريم القوة الغضبية للمسلم نحو الاتجاه الصحيح عندما جعلها في مواجهة الشيطان وكل ما يمت إليه بصلة فقال تعالى: {إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ} [فاطر: آية 6].

صناعة العنف:

إن من أخطر ما تواجهه المجتمعات الإنسانية اليوم ثقافة العنف، ذلك العنف المصطنع الذي لا مبرر له، لا في الغريزة الطبيعية ولا في الواقع الإنساني المخزي الذي تنحدر إليه البشرية منذ سقوط الخلافة الإسلامية وتصدر الغرب لقيادة العالم، هناك أسباب كثيرة تدفع المجتمعات إلى العنف منها الفقر والأنظمة الظالمة والإعلام الموجه والسياسات الاقتصادية في العالم، ولعل أهم مصدر ظاهر ومباشر لصناعة العنف وانتشار ثقافته اليوم هو الإعلام والتلفاز على وجه الخصوص.. كانت الأعمال الدرامية أو الكوميدية أو حتى القتالية والتاريخية في القديم على ما فيها من منكرات وفواحش لا تقبلها المجتمعات المسلمة والمحافظة على السواء تبقى في حيز الواقعية من حيث السيناريو ومسيرة الأحداث عموما، ولكن في العقود الأخيرة توجهت مدينة الصناعة السينمائية في أمريكا هولي وود إلى إنتاج الأفلام الدموية المليئة بمشاهد القتل والدم والاستخفاف بقيمة الروح الإنسانية وتبعها في ذلك الكثير من شركات الإنتاج العالمية الكبرى للأفلام والمسلسلات الحقيقية أو ذات الرسوم المتحركة، حتى أصبح ذلك ثقافة عالمية وأصبحت الأفلام تحصد النقود والشهرة والانتشار بمقدار ما تحويه من عنف أو إرهاب إضافة إلى المغريات التي تداعب الغريزة الشهوانية للإنسان. 

ولعلنا بالنظر إلى أفلام الرعب ومصاصي الدماء ومسلسلات عالم القتل والظلام والمافيا التي تملأ الإعلام المرئي اليوم سواء في التلفاز أو الإنترنت في الشرق والغرب على السواء؛ تتراءى لنا الحياة التي تدعو إليها هذه الأفلام المشبوهة في صورة أشبه ما تكون بتلك التي ذكرها الملائكة الكرام عندما قالوا {أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ} [سورة البقرة: آية 30]، لقد استدلت الملائكة على ذلك بما رأته من الجن من القتل وسفك الدماء على ما روي، وعندما أعطي نبي الله آدم عليه السلام خلافة الأرض أقسم إبليس على إفساد ذرية آدم: {قَالَ فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ (16) ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ وَلَا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ} [سورة الأعراف: آية 16 و 17] وقال أيضا: { وَلَأُضِلَّنَّهُمْ وَلَأُمَنِّيَنَّهُمْ وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَّ آذَانَ الْأَنْعَامِ وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ} [النساء: آية 119]، وإن ما نراه اليوم من نشر لثقافة العنف والدماء هو من عمل إبليس وجنوده من الجن والإنس.

الأطفال وثقافة العنف:

كمدرس للغة العربية لغير الناطقين بها في نهاية أحد الدروس المتعلقة بالطعام طلبت من طلاب في سن المراهقة في أحد الصفوف أن يكتب لي كل اثنين حوارا في المطعم، على أن يخرج الحوار عن الصيغة المعتادة التي مرت معهم في الكتاب، فوجئت في اليوم التالي بأن أكثر من نصف الحوارات تشتمل على أفكار عنف غير مبرر كضرب للنادل أو شجار مع أحد ما في المطعم أو تصرف غريب ينطوي على استعلاء على العمال ورمي للمال في غير موضعه كنوع من الرجولة، وفي أوقات أخرى عندما يُطلب من التلاميذ أن يصيغوا سيناريو لقصة ما ويمثلوها باللغة العربية تجد السيناريوهات على العموم تعتمد العنف في صلب موضوعها.

حتما لم يتلق الطفل هذه الثقافة من والديه ولا من مجتمعه ولكنه تلقاها من التلفاز الذي يقضي أمامه من الوقت أكثر مما يقضي في المدرسة، فقد ذكرت دراسة لليونيسكو في بعض بلدان الوطن العربي على سبيل المثال: أن الطفل قبل أن يبلغ الـ18 من عمره يقضي أمام شاشة التلفاز 22 ألف ساعة تقريباً، مقابل 14 ألف ساعة يقضيها في المدرسة خلال المرحلة نفسها، وذكرت بعض الدراسات أن برامج الأطفال تظهر مشاهد عنف أكثر بـ(50- 60مرة) من برامج الكبار ولا يخلو الأمر من أفلام الكرتون التي تتضمن غالبا أكثر من 80 مشهد عنف في الساعة.

كما أن برامج الرسوم التي يتابعها الأطفال اليوم تحوي إلى جانب المشاهد العنيفة الكثير من المشاهد غير الأخلاقية والخادشة والعقائد الكفرية أو الفلسفية الفاسدة وكل هذا يستدعي من الأهل والمعلمين والتربويين بذل المزيد من الجهد لحماية أجيالنا من انتشار ثقافة العنف وتبلد الحس أمام المواقف العنيفة أو غير الأخلاقية التي تمر أمام أعينهم.

العلاج:

لا بد وأن لكل داء دواء ولكل مرض خطة وقائية لتجنب الوقوع فيه، فما هو علاج العنف الذي بدأ ينتشر بين أطفالنا وشبابنا؟ يمكن أن نشير في هذه العجالة إلى مجموعة من الحلول الأساسية:

1- الحد من الجلوس أمام التلفاز وتعويض الطفل بقراءة القصص والكتب الهادفة التي تعلم الأخلاق الحميدة والقيم المجتمعية الراقية التي عاشت عليها المجتمعات الإسلامية قديما.

2- تعويد الطفل منذ الصغر على مساعدة الآخرين والشفقة على الضعيف من خلال مجموعة من السلوكيات والمواقف بواسطة العائلة أو المدرسة في مواقف مصطنعة أو طبيعية.

3- ينبغي أن يشاهد الأبوان أو المرشد في المدرسة مع الطفل أحد البرامج الكرتونية الشهيرة مع التوقف عند كل لقطة وبيان مخالفتها للدين والأخلاق الحميدة، ويُبين للطفل أنه مستهدف بهذه اللقطات لتحويله إلى إنسان شرير بغية نشر العنف في المجتمعات الإنسانية.. مما سيكسب الطفل المراهق مجموعة من القدرات المعرفية والمهارات النقدية التي ستعينه على التفكير والتحليل وتجنب مواطن الشر.

4- إعادة صياغة الخطاب الإسلامي للطفل بما يعرض له كل جوانب الدين والحضارة الإسلامية والبعد عن الاقتصار على السرد الخاص بالجانب العسكري عند المسلمين، إذ ينتشر في بعض المجتمعات الإسلامية الحديث عن التاريخ العسكري والسياسي للمسلمين وما تخلله من حروب ومعارك وأعمال خارقة للقادة العظام في تاريخنا المجيد مع إهمال للجانب الأخلاقي والشخصي لهؤلاء القادة مما يعطي الطفل انطباعا عنيفا عن تاريخه، وبذلك سيكون من السهولة بمكان استزلاله من قبل الجماعات المتطرفة التي تفسر بعض الأدلة الدينية الجزئية والحوادث التاريخية تفسيرا منحرفا تتخذ منه دينا خاصا لنفسها تستحل من خلاله دماء الأبرياء وأموالهم وأعراضهم.

وملخص الأمر أن على المسلم أن يتنبّه لتربية أبنائه ومن هم تحت يده وأن يقضي معهم جزءا من الوقت ليتلقوا منه المنظومة الأخلاقية الإسلامية عسى تكون حصنا للجيل في مواجهة الأفكار الفاسدة التي تعرض عليه صباح مساء.