ما زلنا، في مقاربة قضايا المرأة، مطحونين في اجترار الصراعات، ومحاولة إعادة تدوير الإشكاليات. وكلما ظننا أننا استطعنا طرد حصان طروادة المستخدم وسيلة لتمييع المفاهيم، أو لاختزالها، أو للطعن في الثوابت، وكلما خلنا أننا تجاوزنا الأزمات بإيجاد حلول يفترض أنها الفيصل، أثيرت زوابع جديدة ترجعنا إلى نقطة البداية، وحمي وطيس تنافسية الأقطاب المتنافرة المتزعمة للاهتمام بهذه القضايا، كل يخطب ودها من منظوره، بل ومن نفعيته وما سيكسبه من وراء نوعية خطاباته الموجهة إليها، والتي تركز إما على تسليعها، أو على الحفاظ عليها من التسليع بالتعليب، وحصر كل الخطاب لها في كونها فتنة.
ولعلنا إذ نحاول إعادة ترتيب هذا الصراع، فنستثني منه الخطاب العلماني، والخطاب الرأسمالي، ونستبعد الحركات النسوية المتصدية لحقوق المرأة، المناهضة للدين، البيِّن خطؤها وعورها في مقاربتها قضايا المرأة والمجتمع، ونكتفي فقط بالخطابات التي تنطلق من مرجعية إسلامية؛ نجد أنفسنا أمام هذه السلسلة التراتبية التداخلية والتي أفرز بعضها بعضا، وسبَّب انبثاق أحدها في انبثاقِ مناهضٍ له، نعرضها في عجالة واختصار.
جهل مطبق رزَحت في قيوده الأمة طوال قرون بابتعادها عن الشريعة وعن تفعيل الأحكام في كل مجالات الحياة، مما أدى إلى بزوغ الصحوة وميلاد الحركات الإسلامية الرامية إلى بعث روح الدين من جديد في الحياة، يعاب عليها في الإجمال؛ ضعف الوسائل، واعتماد خطاب ديني إقصائي متحجر، وفاقة في فهم الأحكام ومناطاتها؛ أفرز بدوره ردود فعل مختلفة من شتى مكونات المجتمع، نكتفي فيها بذكر نشوء حركات النسوية الإسلامية المناهضة لهذا الفكر، الشيء الذي سيلزم بضرورة الاهتمام بخطاب جديد يتصدى لكلا الخطابين: الخطاب الذكوري المتزمت، والخطاب النسوي المُتأسلم.
ولعل مما لا يجادل فيه اثنان؛ أن قضايا المرأة تعج فعلا بالإشكاليات، وبأن هاته الإشكاليات تحتاج إلى قدر عال من الوعي بالواقع وبالمتغيرات وبالمستجدات، وإلى حنكة ومهارة في إنزال الحكم الشرعي أو الفتوى انطلاقا من استقراء محكم للواقع. الشيء الذي أهمله الكثير من المتصدرين للدعوة وللحديث عن شأن المرأة، إما لأنهم لم يحيطوا علما كافيا بالشرع وبالتاريخ، وإما لضعف نضج إدراكهم وضيق اطلاعهم على ما يتعلق بطبيعة المرأة وجبلتها ونفسيتها، أو لتأثرهم ببيئاتهم، وتشبعهم حد التقديس بعادات وتقاليد محيطهم المتزمتة البعيدة عن روح الشريعة السمحة، أو لانطلاقهم من مفاهيم خاصة بالنوع، أو ما يسمى بالذكورية، والتي ستكون سببا مباشرا في خلق حركة نسوية “إسلامية” مناهضة لهذا الفكر المتحجر، بامتطائها أيضا قضايا المرأة والنص الديني المعاد قراءته قراءة “نسوية” بعيدة عن القراءة “الذكورية”، من أجل إصدار مفاهيم حداثية جديدة هدفها إبطال الخطاب الديني السائد لأجل التأسيس لهوية ثقافية ودينية تنطلق من الدين ولا تتعارض مع الحداثة.
لكنها بدورها قد أخطأت من حيث أرادت التصحيح، وسقطت في أسلمة الجندر، ونفخ الروح في تلك التساؤلات التي خيل لنا لمدة أنها متجاوزة، وبأنه تم الرد عليها. لنضطر إلى خطاب آخر يحارب الفكر المتحجر، والفكر المنقطع عن الواقع، والفكر الذكوري من جهة، وأفكار النسوية المتأسلمة المتحيزة للنوع على حساب العدل من جهة أخرى.
نتج عن هذه الصراعات كما سلف نفخ الروح في أسئلة آنية تحمل؛ ليس فقط التعطش لمعرفة الأحكام الشرعية والفيصل فيها، وإنما هموم المرأة وحاجتها للعدل وللإنصاف، والتظلم من رجل كان أيضا ضحية الخطاب الذكوري المشبع بتزكية نوعه، وتفضيله، والترويج لأفكار تعطل فاعلية المرأة، وتقزم دورها في الاستخلاف، وتحجم حريتها، وتضع ألف علامة استفهام على كرامتها بل على بشريتها.
فمعاني القوامة والدرجة، على سبيل المثال، التي يمتطيها بعض الرجال لأجل الإجحاف بها وتجريدها من إنسانيتها ومن حقوقها التي خولها لها الشرع الحنيف؛ أصبحت في حاجة إلى إعادة ترسيخ، وصار من الواجب إعادة بيان مناطاتها؛ ليس للمرأة المتظلمة فحسب، بل للرجل الذي فهمها على أنها تشريف لا تكليف، وجعلها وسيلة إخضاع وفرض الطاعة المطلقة التي تتداخل مفرداتها مع مفهوم العبودية، أو ذلك المتملص أحيانا من تبعاتها، وما تفترضه من مسؤوليات وقيام؛ بالتمسح في الأفكار النسوية المستشرية كي يعفي نفسه مما تلزمه به قوامته.
وأحكام المواريث صارت أيضا موضوعا يتخذ من الكرامة ومن المساواة انطلاقته لأجل الحث على قراءة تأويلية للنص المحكم بعيون نسوية وليس بـ”تفسير ذكوري”.
ومفهوم الطاعة قد أخذ أبعادا وأفرز أسئلة تصل أحيانا إلى التأسيس للتمرد ما دامت لا تجد ردا شافيا يؤطر المفهوم بحدود تخرجه من معاني الاستعباد. وحقها في الدراسة وفي العمل يجعلها تسائل من رَوَّج للحرمة ولمنعها منه، في محاولة لإعادة توزيع الأدوار والاختصاصات بينها وبين الرجل بعدما أصبحت – واقعيا – جزءا لا يتجزأ من الإنفاق، وصار دورها في الإعالة لا يقل عن دور الرجل.
والخدمة في بيت زوجها صار موضوعا جدليا يعبر عن رفضها لكل ما من شأنه إلزامها بما تراه غير ملزم؛ حتى ودون الاحتكام إلى الواقع المفروض، أو الرجوع إلى أقوال الفقهاء، ومن غير فهم الاختلاف وغائية الأحكام أو الفتاوى. وأصبح موضوع التعدد يخضع في فهمه لفلسفتها الخاصة في استقراء النص القرآني…
وهكذا صارت الكثير من الموضوعات التي تحمل قضاياها خاضعة لإعادة استقراء، وصار النص خاضعا لإعادة التأويل واستخراج إمكاناته، وصارت تعليلات الفقهاء عندها متجاوزة باعتبار قصورها عن خدمة نظرتها التأويلية النسوية، وأصبح صراعها مع الإشكاليات وسيلتها لتكريس المساواة، وللدفاع عن كرامتها وحريتها واستقلاليتها، بل لتحديد هويتها وتحقيق ذاتها.
نحتاج الآن، قبل أي وقت مضى؛ إلى تكاتف الجهود لأجل الرد على هاته الأسئلة وغيرها، ولأجل نشر ثقافة الحق والواجب في صفوف النساء، وتوعيتهن بأدوارهن الطلائعية، وبكرامتهن التي خولها لهن الشرع، ومناقشة واقعهن ومستجداته ونوازله، فننقذهن، من جهة، من تناقضات وحيف الخطاب الذكوري المجحف، ومن جهة من تبعات الفكر النسوي المتأسلم المتمرد الذي أصبح خطره مستشريا؛ ما دام لا يرى قدسية لتأويلات السلف، ولا يحفظ للنص حرمته، وينطلق في محاربة الأفكار الذكورية المنبنية على النوع؛ بأفكار نسوية تنهج نفس النهج الإقصائي في مقاربة القضايا.