انتشرَ ببُلدان الشمال الأقصى العنف والقسوة في المعاملات وخاصّة في الحروب، وما أعنيهُ هُنَا بِبُلْدَانِ الشمالِ الأقصى هِي إمارات الرُّوس وبعض قصص حُكامها التي تجمع بين الحقيقة والأساطير.
كان هناك مَلِك للرُّوس يُدعى “إيغور بن روريك” وكانَ يشتهرُ بسطوتهِ وحنكتهِ في الحروبِ، حيثُ أوَّل عملٍ باشرهُ بعد توليه الحكم كانَ الهجوم على القسطنطينية، وبعد مناورات بينهما انتهى هذا الهجوم إلى عقد معاهدة تجارية سنة 334هـ/ 945م وبالطبع كانت تلك المعاهدة أكثر فائدةً للرُّوس، وبمتعة الانتصار والنجاح توجه بعد ذلك إلى قبيلة الدريفليين Drevlyane؛ ليجمع منهم الضرائب ونظرًا لشدته في الجباية ومعارضتهم لروسيا الكييفية اتفقوا على قتله والنيل منه.
لم يحالفه الحظ بأن يفرح كثيرًا بتلك المعاهدة، فقد أوقعوا به هو ورجاله بصورة محزنةٍ أثناء عودته، إذ قادوه إلى شجرتين متقاربتين وأمالوا أغصانها إلى الأرض وربطوه بهما ربطًا محكمًا، ثم أفلتوها فعادت الأغصان إلى أماكنها بسرعة؛ مزقت جسده ومات سنة 344هــ/ 945م، وجديرٌ بالذكر أن الدريفليين هم قبيلة من أوائل السلاف الشرقيين ويعني اسمهم “الخشب والشجرة” ويُطلق عليهم “سكان الغابة”، وتماشيًا مع اسمهم وطبيعية معيشتهم ليس بغريبٍ ما فعلوه بـ”إيغور”.
انتقام أولغا:
ومن هنا تأتي بطلة قصتنا وهي الأميرة “أولجا أو أولغا Olga” زوجة الأمير “إيغور”، فقد تولت الأميرة “أولجا” الحكم نيابة عن ابنها بعد مقتل أبيه وكان ابنهما “سفياتوسلاف” صغيرًا حينها؛ لذا ملكت مكانه، وأول ما فعلته عقب توليتها الحكم هو الانتقام من قتلة زوجها، وحينها حاول الدرفيليون أن يستعطفوها كي لا تنتقم منهم، عرضوا عليها أن تتزوج من أميرهم، لكنها رفضت وعاملتهم شر معاملة لسوء فعلتهم، ودفنت رُسُلهم أحياءً، وآخرين قتلتهم بعدة أشكال مختلفة من العذاب، وتفننت في قتلهم بما جادت به قريحة حقدها، ولكن لم ييأسوا وحاولوا أن تسامحهم بعدة محاولات أخرى، وبالطبع لم تكتفِ بما فعلتهُ برُسُلهم الأولين ولم يشفِ غليلها، فقد اشتهرت بأنها مع قسوتها بتمتعها بذكاءٍ عالٍ ودهاءٍ.
وأخيرًا رضيت أن تُصالحهم بعد وقتٍ ليس ببعيد من تلك الحادثة، فطلبت منهم جزية -ضريبة- عبارة عن ثلاث حمامات وثلاثة عصافير من كل بيت. ومما لا شك فيه أنهم حينها ضمنوا عطفها وأنها قد سامحتهم وناموا مطمئنين، ولا يعلمون أنها خدعة منها، فما أن حلَّ الظلام عليهم أمرت بربط مادة ملتهبة-مشتعلة- في ذنب كل من هذه الطيور وتركتها تعود إلى أعشاشها، فشبت النيران في كل بيوت المدينة، وكان في انتظارهم بالخارج الرُّوْس استقبلوهم بسيوفهم وقتلوهم بلا رحمة، وبعد ذلك فرضت على من بقي منهم الجزية التي خصت ثلثيها للعاصمة كييف، والثلث الآخر لمدينة فيتشجورود.
وجدير بالذكر أن الأميرة “أولجا” أول ملكة تحكم روسيا في القرون الوسطى، وكما هو واضح فقد اشتهرت بالذكاء والدهاء والحنكة كما ظهر في انتقامها، وكذلك ما فعلته بعد ذلك من توطيد سلطانها وعلاقاتها مع البلدان المجاورة: كزيارتها للقسطنطينية واحتفال الإمبراطور البيزنطي “قسطنطين بروفيرجنتيوس السابع” لها الذي كان معجبًا بحكمتها وشجاعتها النادرة، إذ استقبلها استقبالاً كبيرًا ولقبها بالمعمودية هيلانة أو هيلينا وهو اسم زوجته، ولا يفوتنا أن ننوه إلى الأعمال الأخرى للأميرة “أولجا”، منها: أنها كانت أوَّل من بشَّر بالديانة المسيحية في روسيا.
وبطبيعة الحال تمتع ابنها “سفياتوسلاف” بجزء من ذلك الذكاء الذي كان يتمتع به والداه، فعُرف بأنه كان شجاعًا وقائدًا محنكًا وتميزَ عن سائر أمراء الروس خاصة وأهل الشمال عامة بأنه ما أخذَ أحدًا على غرةٍ بل كان يُنذر مَنْ يُريد محاربته قبل هجومه عليه!، وبالرغم من قصر مدة حكمه إلا أنه قام بأمرين مهمين أولهما: تجميع جيش كبير قوي؛ ليبسط سلطانه على القبائل المجاورة، ثانيهما: محاربة الخزر والبُلْغَار، والشعوب القاطنة على نهري الفولجا والأوكا، واستنادًا لما سبق كان الأمير “سفياتوسلاف” في التاريخ الروسي خليفة متميزا لوالدته الأميرة أولجا.
هذه كانت قصة انتقام الأميرة أولجا من قتلة زوجها، وبغض النظر عن وحشية القَاتلين وعن قسوة انتقام الأميرة أولجا، أعتقدُ أن الأميرة كانت تُفكر حينها بمبدأ الجزاء من جنس العمل. بالفعل لقد تم قتل زوجها بوحشية غير مبررة، حتى وإن كان يستحق ذلك من وجهة نظر القاتلين لما عُرِفَ عنه من قسوة في الجباية، ولكن أيًّا كان فعله فقتلُ النفس بهذه الوحشية ليس له مبررًا، كما أن حرق البيوت على ساكنيها ليس مبررا أيضا.