هناك حقول تداولية لمقولات وأفكار عقدية قد جعل منها اشتهارها؛ شعارات تطمينيّة توهيمية عبر أنساق انتشرت، وترسخت، وقوبلت بالرضا والتصديق والقناعة، فضلا عن الارتياح لها وبها، ليس فقط بسبب كثرة تداولها، وإنما لاعتبارها مما لا يجب أن يطالها المد العقلي المتحرك الذي يسعى إلى مساءلة كل عبارة عن معانيها وأبعادها، إما لأنها خرجت من مشكاة من تصدروا لقيادة العقل الجمعي، وأخذوا على عواتقهم إعفاء الناس من الفهم والتحليل والاستنباط، أو لحملها لمعان تمس العقيدة، ولا تسمح – في عرف من ارتأوا فيها الخلاص – بإخضاع بُناها للأسئلة. بل إن أية محاولة لإعادة تفكيكها والتحقيق فيها؛ قد يقابل بالصدود والهجوم والاتهام بالتعقيد والتقعر الفكري.
أسوق على سبيل التمثيل لذلك عبارة تتناقلها مواقع التواصل:
“حاشاه أن يزرع فيك أملًا ثم ينزعه”
إن الأبنية اللغوية لهاته المقولة تبرز بشكل واضح مغالطات ومفارقات خادعة تضع “الآمل الحالم” في حالة طمأنينية سيكولوجية تجعل منه كائنا سالبا خانعا لمجرد أنه اعتنق أملا؛ وعوض أن يواجه أحلامه وآماله بما يحققها في عالمه الفيزيقي، رهَن قدراته في حيلة سيكولوجية ناجزة تعفي آليات عقله من الاشتغال كي يبحث عما يحقق آماله، ورحّل آماله تلك إلى حيث لا دور لعقله في تحديد صلاحيتها ونجاعتها، ولا يد له في إنجازها، وجعل لها مهربا ميتافيزيقيا تحقيقها فيه حاصل تحصيلا لا ينازع فيه اثنان؛ فقط لأنها “زُرِعت” في أحشائه.
دعونا نحاول تفكيك هذه العبارة كي نفهم المعادلة غير المتكافئة التي تقدمها، والخدع التي تتضمنها والتي قد يجعلنا النزع إلى المثالية والسطحية لا ننتبه لها:
– فعبارة “حاشاه” في المقولة؛ خدعة نفسية تبث الطمأنينة في “الآمل” لأنها عبارة تنزيه لله عن عدم تحقيق ذلك الأمل و”هو” سبحانه من “زرعه”!
– ونسبة زرع الأمل في قلب الآمل إلى الله؛ خدعة ثانية، فهي تعني أن كل خاطرة، وكل أمنية، وكل حلم اعتنقه الإنسان؛ إنما هو مسألة جبرية بفعل من الله، و”الآمل” إنما هو مخلوق منزوع الإرادة فيها ابتداء، مسير فيها ولا خيار له في اعتناقها!
– والخدعة الثالثة المنبثقة عن هذا الجبر؛ أن تحقيق الأمنية سيكون محتوما انتهاء، فحسب طرح العبارة لا عبرة ولا حكمة من زرع أمل في الأحشاء؛ دون تحقيقه.
ونحن نزيح الغشاوة عن فهم أبعاد هذه العبارة المتجذرة في المثالية والإيهام، ونكشف عن خطأ نتيجة معادلة قد بنيت على معطيات خاطئة، ونوضح ما لمثل هذه العبارات من تخدير للعقول، وتعطيل لقوة المؤمن الفاعلة، ونزع الإرادة عنه (فليس هو من تمنى، وإنما الأمنية قد زُرعت فيه)، وترحيل كل قدرة لتحقيق الأحلام من العالم الأرضي حيث اضطرار المرء إلى الأخذ بالأسباب، والبحث عن حلول للإنجاز، والتعامل مع إحداثيات الحياة بإيجابية وفاعلية، وتحمل النتائج كيفما كانت، إلى التأبد في الطمأنينة، والبحث عن الخلاص السهل الميسر المستحَق اقتضاء لدلالة العبارة المشار إليها وشبيهاتها، لا يسعنا إلا أن نذكر ببعض البدهيات التي قد يغفلها السالك المغرق في المثالية:
أليس الملك ملك الله، والأمر له، وقضاؤه – سبحانه – نافذ كيفما شاء ومتى شاء؟
أليس هو سبحانه المعطي المانع، ممتحن عباده بالعطاء والسلب؟
أليس سبحانه كل يوم هو في شأن؛ يعطي ويمنع، ويرفع ويخفض، وينزع بعد هبة وعطاء؟
أعرف من نبتت في صدره حقول من أمنيات خضر، لكنها ماتت قبل الينع بله وقت الحصاد. وأعرف من خلط بين الأحلام وحسن الظن بالله، فلما تغولت في صدره أحلامه، ظن أن الاحتفاظَ بها؛ مدعاةٌ لتحقيقها، وأن تلبسها به يعني – لا محالة وبشكل رياضي – تحقيقها.
إنما المعوَّل عليه في فهم أقداره وأفعاله عز وعلا، وفي فهم أسمائه وصفاته؛ أن تُفهم في تقابلها، وأن نعلم أن عبوديتنا له؛ تقتضي الشكر على النعمة والتمكين، والصبر والرضا في المنع والبلاء، وأن نعلم أنه قد يمنع بعد عطاء لذنب ولغير ذنب، ولسبب محسوس ولغير ما سبب، وبأن عبوديتنا وتقديسنا وتنزيهنا له سبحانه؛ لا تُخرج أفعاله جل وعز عن إرادته وجبروته وعظمته وقدرته ومشيئته.
حسن الظن بالله لا يعني أن نملي على الله ما عليه فعله، ولا أن نتحكم عليه ونتخير عليه سبحانه ما لا نعلمه، إنما حسن الظن في مباشرة الأسباب مع الثقة بالله. ثم هل أمنياتنا محض جبر من الله، أليس فعل التمني هو من فعلنا نحن؟ وهل كل أمنية تمنيناها هي مرضاة للرب؟ وهل أخذ الله على نفسه عهدا بأن يحقق كل ما نتمناه حتى ننزهه عن عدم الاستجابة كما في المقولة؟
وماذا عن حديث النبي صلى الله عليه وسلمَ: ((مَا مِنْ مُسْلِمٍ يَدْعُو بِدَعْوَةٍ لَيْسَ فِيهَا إِثْمٌ، وَلَا قَطِيعَةُ رَحِمٍ، إِلَّا أَعْطَاهُ اللهُ بِهَا إِحْدَى ثَلَاثٍ: إِمَّا أَنْ تُعَجَّلَ لَهُ دَعْوَتُهُ، وَإِمَّا أَنْ يَدَّخِرَهَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ، وَإِمَّا أَنْ يَصْرِفَ عَنْهُ مِنَ السُّوءِ مِثْلَهَا)). فهل وعد بأن يستجيب الدعوة ما دام الأمل قد زرع فينا؟
إحسان الظن بالله؛ أن ننجز وأن نأخذ بالأسباب، ثم نرضى بما يختاره الله لنا، وألا نعترض على عدم تحقق المطلوب، فلعل الخير في عدم تحققه، ولعل السائل قد أعطي بدعوته ما هو أفضل له من مطلوبه.
والخلاصة أن الأمل الذي ينبت بين الضلوع؛ ليس دلالة على تحققه، ولم يعطنا الله عهدا على أنه لن ينتزعه منا. والواقع يصدق، فكم من أمل تمنينا تحقيقه فتحقق ثم لحكمة انتزع منا، وكم من أمنية لم تتحقق، ولله في ذلك الحكمة البالغة. بل إن شهود حكمته سبحانه أثبتت لنا كم كنا ساذجين بتمسكنا بآمال ما كانت لتسعدنا لو كانت تحققت.
عبادتنا في التفويض ومجاهدة هذه الحياة والأخذ بالأسباب مع حسن الظن بالله، لا إيهام الناس بأن ميلاد الأمل بين الضلوع مدعاة لتحقيقه وعدم انتزاعه.